إ ستيقظ باكراً على غير عادته. منشرحاً ونشطاً غادر فراشه.
توجَّه إلى الحنفية ليغسل وجهه ويغِّير ريقه بمعجون أسنان بروح النعناع، وجد الماء مقطوعاً .. يا إلهي.. متى حضر هؤلاء ..؟ ألا ينامون أبداً ..؟
تذّكر أنه لم يدفع مستحقات هيئة المياه بداية الشهر، وكيف له أن يفعل وهو إذا دفعها لا بُدَّ أن يؤجِّل شيئاً آخر.
كان يستغني عن الكهرباء شهراً، والمياه شهراً، والهاتف شهراً، ويتحمَّل مضايقات صاحب الدكان واستفزازات مالك البيت، وأقسم لو أن الحكومة تسمح له بالسكن في الشارع لاستغنى عن البيت شهراً أيضاً، وبذا يدخل في قائمة المستغنى عنهم أو ما يسمِّيه "القائمة الهامشية" ...
حاول أن لا يجعل هذا الأمر البسيط المتكرِّر، يحظى بشرف تعكير مزاجه الصباحي الجميل .. تجاوزه؛ فهم دائماً ما يضعون احتياطيَّاً وعندما ينتهي بعد اليومين الأولين من انقطاع الماء، فخرطوم الماء طويل بحيث يصل إلى بيت أكثر من جار في الحي ..
- يا ولد ..أملا الجردل دا سريع، عاوز استحمى وأطلع ..
حمل الباب خلفه، رغم أنه لا يغطي كل فتحة الباب ..
مع انسياب الماء البارد على جسده أحسَّ بالنشاط، وتمنى أن يتجاوز اليوم ساعتيه القادمتين ويرميهما أو يعود إليهما مرة أخرى، ليس مهمَّاً. المهم عنده هو أن يغمض عينيه ويفتحهما فيجد الساعة التاسعة موعد استلامه لعمله ..
منذ اليوم لن ينتظر إعانات إخوته المغتربين المتقطعة .. لن يغيّر خط سيره تهرباً من صاحب الدكان أو الجزار أو جاره الذي يقاسمه معاشه .. لن يسير برنامجهم الغذائي على نهج ( يوم في ويوم مافي ويوم كسرة بموية ) .. لن ينام أبناؤه دون عشاء ولو كان كوباً صغيراً من اللبن ..
- لا ..لا ..لا .. أمشي يا ولد.. يا محمد تعال تعال الولد دا رمى الباب .. يا على امسك الولد دا الباب وقع ليهو في كراعو ..
وما كان الباب سوى شريحة من الزنك لا تغطِّي كل فتحة الباب ولكنها تستر مَنْ خلفها.
ارتدى ملابسه قبل أن يزيل الصابون عن كل جسده، وأقسم أنه سيغير هذه الشريحة من الزنك الصدئ التي يطلقون عليها مجازاً باباً ..
شرب الشاي، كالعادة سكَّر خفيف. توكَّل على الله وبسمل وأراد الخروج. ولكن ..
الباب! ما باله الباب..؟ حاول أن يفتحه وحاول أكثر وأكثر ولم يطاوعه .. الباب ذو (الضلفتين) إحداهما أقصر من الأخرى.
- تباً لهذا الباب الأعرج!
قال بحنق وواصل :
- يا محمد مية مرة قلت ليكم ما تقفلوا الباب الملعون دا شديد كدا .. أهو رزعة الباب دي خلتو يبقى كدا ..
عندما نجحت محاولاته أخيراً بعد رزمة من الكلمات الغاضبة، فتح الباب، سمع صريره نصف سكان الحي و"انكمش" كم القميص في يده اليمنى
لكن ..
لا بأس، فهو اليوم لا يريد لأيّ شيء أن ينال من مزاجه، حاول فرده بيده الأخرى وواصل سيره ..
استقل الحافلة واقفاً، ليس أمامه خيار آخر لا يريد أن يتأخَّر عن مواعيد العمل..
- يا ولد .. دخِّل الناس الفي الباب ديل عليك الله، ما ناقصين غرامات من الصباح..
صرخ سائق العربة.
بانتهاء جملته الأخيرة، أحس بأيدي تدفعه إلى الداخل وبدأت المعركة ..
- يا أخوانا لو سمحتوا، أدخلوا لينا جوَّه عليكم الله ..
هذا يلكم هذا، وهذا يدوس على قدم ذاك، والآخر الطويل منحنٍ وكأنه يصلي ..
- يا أخوانا أفتحوا الشباك دا .. الدنيا سخانة والسحاوي حايم الأيام دي …!
و.. و .. و أخيراً وصل محطته. اقتلع نفسه من بين الآخرين وقذف بها إلى الطريق، ومع وصوله اكتشف أن باب الحافلة أراد الاستيلاء على جزء من قميصه، فانتزع نصيبه منه وواصل سيره بقميص مثقوب..
تخطَّى تفكيره في هذا الأمر وأقنع نفسه: "لن ينتبه أحد إلى هذا الثقب" سيحاول أن يداريه ويخفيه عن الأنظار .. سيشتري واحداً جديداً بعد أيام، فهو الآن غيره بالأمس، عندما كان عاطلاً ..
دخل الشركة التي يمتلكها أحد رجال الأعمال (هؤلاء الذين يظهرون فجأة أغنياء ويُعتمون على تاريخهم فلا يُعلم سوى أنهم رجال أعمال.. كيف ومتى ..؟ لا أحد يعلم)
ولكن..
ماله وهذا ..؟ ليس شأنه ما يهمه هو عمله ودون ذلك خارج عن دوائر اهتمامه .. سيجدُّ في عمله ويثبت كفاءته، ويغيّر وضعه، وربما فتح له هذا العمل أبواباً أخرى مع قبيلة رجال الأعمال الغنية هذي ..
سيعيد الماء .. سيلغي نظام الاستغناء عن أحد مكونات القائمة الهامشية كل شهر.. ستبقى كل القائمة كل الشهور .. سيشترى باباً للحمام ويركِّبه ويصين أرضيته.
بعد فترة أيضاً سيصلح الباب الأعرج ويقوّمه، ولن يحتاجوا لشرب الشاي سكر خفيف، حتىّ لو بدعوى الحفاظ على الصحة وسـ .. وسـ ..وسـ .. وغرق في الحلم.
وصل مكتب رجل الأعمال في الطابق الثاني، تأمَّل الباب الجميل الشكل المتين والجيّد الصنع، "لا بُدَّ أنه من أحد المصانع التي تصنع الأبواب والنوافذ وغيرها، أو ربما كان مستورداً، وعلى كل الأحوال فهو قطعاً لم يُصنع في أيّ ورشة من ورش المنطقة الصناعية".
أعلاه لوحة أنيقة وفخمة محفور عليها "المدير".
تحسَّس الباب، كم هو بارد، أخذ نفساً عميقاً، أمسك مقبض الباب وقال في نفسه: " الآن ألج دنيا البشر".
لكن ..
ما به ؟! لمَ لا يفتح ..؟ هل هو أعرج أيضاً مثل باب بيته؟ أم أنه يُحمل مثل باب حمامه؟ أم أنه لص أقمشة مثل باب الحافلة؟
أدار المقبض أكثر من مرَّة .. طرق وطرق مرة أخرى وأخرى ولا جدوى.
مرَّ الساعي سأله:
- المدير موجود ..؟
- أنت عاوز المدير ..؟
قال بنفاذ صبر
- أيوه يعنى سألتك عشان شنو ..؟
- أنت عمر أحمد؟
- أيوه انا ذاتى بلحمي وعظمي …
- معليش المدير طلب مني لما أنت تجي أقول ليك انو الوظيفة دي أدوها لزول تانى واستلم الشغل خلاص .
- شنوووو ..؟! كيف الكلام دا ؟ وليه ..؟
- والله دا الحصل .
غضب .. ثار .. صرخ .. طالب بحقه .. قرع الباب وحاول اقتلاعه .. زاد الثقب في القميص ..
أولاده ما مصيرهم ..؟ لقد وضع كل أمله في هذه الوظيفة .. هو يستحقها .. يستوفي شروطها .. لِمَ تعطى لآخر..؟ لِمَ ..؟!
لن يغادر هذا المكان ما لم يجد إجابات لأسئلته، ما لم يعرف السبب. فكّر بوضعه.. بيته .. قائمته الهامشية .. إخوته الذين يقطّرون عليه إعاناتهم قطرة قطرة .. بباب بيته الأعرج .. بباب حمامه المحمول ..
آآآآآهـ ..
أرهقه عبور كل هذا وأنهكه التفكير في الغد، ارتمى قبالة باب المدير وبكى..
بحرقة بكى .. بقهر وإحساس بالظلم بكى .. ظل في مكانه وبين لحظة وأخرى يرفع نظره إليه عسى أن يُفتح أو يطل منه أحد .. طال الانتظار والباب موصد دونه.
رواية للكاتبة رانية مأمون